كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قرأ يحيى بن وثاب والأعمش والكسائي بكسر الجيم أي كسرًّا وقطعًا جمع جذيذ وهو الهشيم، مثل خفيف وخفاف وكريم وكرام، وقرأ الباقون: بضمّه أي الحطام والدقاق {إِلاَّ كَبِيرًا لَّهُمْ} أي عظيمًا للآلهة فإنّه لم يكسره ووضع الفأس على عنقه {لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ} فيتذكّرون ويعلمون ضعفها وعجزها، وقيل: لعلّهم إليه يرجعون فيسألونه، فلمّا جاء القوم من عيدهم إلى بيت آلهتهم ورأوا أصنامهم {قَالُواْ مَن فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظالمين قَالُواْ} يعني الذين سمعوا إبراهيم يقول: تالله لأكيدنّ أصنامكم {سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ} يعيبهم ويسبّهم ويستهزئ بهم {يُقَالُ لَهُ إبراهيم} هو الذي صنع هذا، فبلغ ذلك نمرود الجبّار وأشراف قومه فقالوا {فَأْتُواْ بِهِ على أَعْيُنِ الناس} يراد بأعين الناس {لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ} عليه أنّه هو الذي فعل ذلك، وكرهوا أن يأخذوه بغير بيّنة، قاله قتادة والسدّي.
وقال الضحّاك والسُدّي: لعلّهم يشهدون ما يصنع به ويعاقبه، أي، يحضرون، فلمّا أتوا به {قالوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنَا ياإبراهيم قَالَ} إبراهيم {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا} غضب من أن تعبدوا معه هذه الصغار وهو أكبر منها كسرهنّ، قاله ابن إسحاق، وإنّما أراد إبراهيم بذلك إقامة الحجّة عليهم، فذلك قوله سبحانه {فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُواْ يِنْطِقُونَ} حتى يخبروكم بمن فعل هذا بهم.
وروي عن الكسائي أنّه كان يقف عند قوله: بل فعله ويقول: معناه فعله من فعله، ثم يبتدي كبيرهم هذا.
وقال القتيبي: جعل إبراهيم النطق شرطًا للفعل فقال: {فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُواْ يِنْطِقُونَ} والمعنى إن قدروا على الفعل، فأراهم عجزهم عن النطق والفعل، وفي ضمنه أنا فعلت ذلك، والذي تظاهرت به الأخبار في هذه الآية، قول ابن إسحاق يدلّ عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم لم يكذب إلاّ ثلاث كذبات كلّها في الله عزّ وجلّ قوله: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 89] وقوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ} وقوله لسارة: هي أختي، وغير مستحيل أن يكون الله سبحانه أذن لرسوله وخليله في ذلك ليقرع قومه ويوبّخهم ويحتجّ عليهم ويعرّفهم موضع خطئهم كما أذن ليوسف حين أمر مناديه فقال لأخوته: {أَيَّتُهَا العير إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} [يوسف: 70] ولم يكونوا سرقوا شيئًا.
{فرجعوا إلى أَنفُسِهِمْ} يقول: فتفكّروا بقلوبهم ورجعوا إلى عقولهم {فقالوا} ما نراه إلاّ كما قال: {إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظالمون} هذا الرجل في سؤالكم إيّاهـ. وهذه آلهتكم التي فعل بها ما فعل حاضرة فسلوها، وقيل: إنّكم أنتّم الظالمون بعبادتكم الأوثان الصغار مع هذا الكبير.
{ثُمَّ نُكِسُواْ على رُءُوسِهِمْ} متحيّرين مثبورين وعلموا أنّها لا تنطق ولا تبطش، فقالوا {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هؤلاء يَنطِقُونَ} فلمّا اتّجهت الحجّة لإبراهيم عليهم {قَالَ} لهم {أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلاَ يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} فلمّا لزمتهم الحجّة وعجزوا عن الجواب {قَالُواْ حَرِّقُوهُ وانصروا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ}.
قال ابن عمر: إنّ الذي أشار عليهم بتحريق إبراهيم رجل من الأكراد، قال شعيب الجبّائي: اسمه هيزن فخسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة، قالوا: فلمّا جمع نمرود قومه لإحراق إبراهيم حبسوه في بيت وبنوا بنيانًا كالحظيرة فذلك قوله: {قَالُواْ ابنوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الجحيم} [الصافات: 97] ثم جمعوا له صلاب الحطب من أصناف الخشب حتى إن كانت المرأة لتمرض فتقول لئن عافاني لأجمعنّ حطبًا لإبراهيم، وكانت المرأة تنذر في بعض ممّا تطلب ممّا تحبّ أن تدرك لئن أصابته لتحتطبنّ في نار إبراهيم التي يحرق بها احتسابًا في دينها.
قال ابن إسحاق: كانوا يجمعون الحطب شهرًا، قالوا: حتى إذا أكثروا وجمعوا منه ما أرادوا أشعلوا في كلّ ناحية من الحطب، فاشتعلت النّار واشتدّت حتّى أنْ كان الطّير لتمرّ بها فتحرق من شدّة وهجها، ثمّ عمدوا إلى إبراهيم فرفعوه على رأس البنيان وقيّدوه، ثم اتخذوا منجنيقًا ووضعوه فيه مقيّدًا مغلولًا، فصاحت السموات والأرض ومن فيهما من الملائكة وجميع الخلق إلاّ الثّقلين صيحة واحدة: أي ربنّا، إبراهيم ليس في أرضك أحد يعبدك غيره يُحرق فيك فائذن لنا في نصرته، فقال الله سبحانه وتعالى لهم: إنِ استَغاث بشيء منكم أودعاه فلينصره، فقد أذنت له في ذلك، وإن لم يدع غيري فأنا أعلم به، وأنا وليّه فخلوا بيني وبينه فلمّا أرادوا إلقاءه في النّار أتاه خازن المياه فقال: إن أردت أخمدت النّار فإنّ خزائن الأمطار بيدي، وأتاه خازن الرياح فقال: إن شئت طيّرت النار في الهواء، فقال إبراهيم: لا حاجة لي إليكم، ثم رفع رأسه إلى السماء فقال: اللهمّ أنتَ الواحد في السماء وأنا الواحد في الأرض، ليس في الأرض أحد يعبدك غيري، حسبي الله ونعم الوكيل.
وروى المعتمر عن أُبي بن كعب عن أرقم أنّ إبراهيم قال حين أوثقوه ليلقوه في النار: لا إله إلاّ أنت سبحانك ربّ العالمين، لك الحمد ولك الملك، لا شريك لك، قال: ثمّ رموه في المنجنيق إلى النّار من مضرب شاسع فاستقبله جبرئيل فقال: يا إبراهيم ألك حاجة؟ قال: أمّا إليك فلا، قال جبرئيل: فاسأل ربّك؟ فقال إبراهيم: حسبي من سؤالي علمه بحالي، فقال الله سبحانه {يا نار كُونِي بَرْدًا وسلاما على إبراهيم} قال السدّي: كان جبرئيل هو الذي ناداها.
قال ابن عباس: لو لم يتبع بردها سلامًا لمات إبراهيم من بردها، فلم تبق يومئذ نار في الأرض إلاّ طفئت ظنت أنّها هي تُعنى.
قال السدّي: فأخذت الملائكة بضبعي إبراهيم فأقعدوه على الأرض، فإذا عين ماء عذب وورد أحمر ونرجس.
قال كعب: ما أحرقت النار من إبراهيم إلاّ وثاقه، قالوا: وكان إبراهيم في ذلك الموضع سبعة أيام.
قال المنهال بن عمر: قال إبراهيم خليل الله: ما كنت أيّامًا قطّ أنعم منّي من الأيّام التي كنت فيها في النار.
قال ابن يسار: وبعث الله جلّ اسمه ملك الظلّ في صورة إبراهيم فقعد فيها إلى جنب إبراهيم وهو يؤنسه، قالوا: وبعث الله بقميص من حرير الجنّة وأتاه جبرئيل عليه السلام فقال: يا إبراهيم إنّ ربّك يقول: أما علمت أنّ النار لا تضرّ أحبّائي، ثمَّ نظر نمرود من صرح له وأشرف على إبراهيم وما شكّ في موته، فرأى إبراهيم جالسًا في روضة ورأى الملك قاعدًا إلى جنبه وما حوله نار تحرق ما جمعوا له من الحطب فناداه نمرود: يا إبراهيم، كبير إلهك الذي بلغت قدرته أن حال بينك وبين ما أرى لم يضرّك، يا إبراهيم هل تستطيع أن تخرج منها؟ قال: نعم، قال: هل تخشى إن أقمت فيها أن تضرّك؟ قال: لا، قال: فقم فاخرج منها، فقام إبراهيم يمشي فيها حتى خرج منها، فلمّا خرج إليه قال له: يا إبراهيم، مَن الرجل الذي رأيت معك مثل صورتك قاعدًا إلى جنبك؟ قال: ذلك ملك الظلّ أرسله إلى ربّي ليؤنسني فيها، فقال نمرود: يا إبراهيم إنّي مقرّب إلى إلهك قربانًا لما رأيت من قدرته وعزّته فيما صنع بك حين أبيت إلاّ عبادته وتوحيده، إنّي ذابح له أربعة آلاف بقرة، فقال له إبراهيم: إذًا لا يقبل الله منك ما كنت على دينك هذا حتى تفارقه إلى ديني، فقال: يا إبراهيم لا أستطيع ترك ملكي ولَكِن سوف أذبحها له، فذبحها له نمرود، ثمَّ كف عن إبراهيم ومنعه الله سبحانه منه.
قال أبو هريرة: إنَّ أحسن شيء قاله إبراهيم لمّا رفع عنه الطبق وهو في النار يرشح جبينه فقال نمرود عند ذلك: نعم الرب ربك يا إبراهيم قال كعب وقتادة والزهري: ما انتفع أحد من أهل الأرض يومئد بنار ولا أحرقت النار شيئًا يومئذ إلاّ وثاق إبراهيم ولم تأت يومئذ دابّة إلاّ أطفأت عنه النار إلاّ الوزغ، فلذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله وسمّاه فويسقًا.
قال شعيب الجبائي: أُلقي إبراهيم عليه السلام في النار وهو ابن ست عشرة سنة، وذبح إسحاق وهو ابن سبع سنين، وولدته سارة وهي بنت تسعين سنة، وكان مذبحه من بيت ايليا على ميلين، ولمّا علمت سارة بما أراد باسحاق بطنت يومئذ وماتت اليوم الثالث.
قال الله سبحانه {وَأَرَادُواْ بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأخسرين وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا} من نمرود وقومه من أرض العراق {إِلَى الأرض التي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} يعني الشام.
قال أُبىّ بن كعب سمّاها مباركة لأنّه ما من ماء عذب إلاّ وينبع أصله من تحت الصخرة التي ببيت المقدس.
وقال قتادة: كان يقال: الشام أعقاب دار الهجرة، وما نقص من الأرض زيد في الشام، وما نقص عن الشام زيد في فلسطين، وكان يقال: هي أرض المحشر والمنشر، وبها مجمع الناس، وبها ينزل عيسى ابن مريم، وبها يهلك الله الدجّال.
وحدّث أبو قلابة أنَّ رسول الله عليه السلام قال: «رأيت فيما يرى النائم كأنّ الملائكة حملت عمود الكتاب فوضعته بالشام، فأوّلته أنّ الفتن إذا وقعت فإنّ الإيمان بالشام».
وذكر لنا أنّ عمر بن الخطّاب رضي الله عنه قال لكعب: ألا تتحوّل إلى المدينة فإنّها مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وموضع قبره؟ فقال له كعب: يا أمير المؤمنين إنّي أجد في كتاب الله المنزل أنّ الشام كنز الله من أرضه وبها كنزه من عباده.
قال محمد بن إسحاق بن يسار: استجاب لإبراهيم رجال من قومه حين رأوا ما صنع اللّه سبحانه به من جعل النار عليه بردًا وسلامًا على خوف من نمرود وملئِهم، فآمن له لوط وكان ابن أخيه، وهو لوط بن هاران بن تارخ، وهاران هو أخ إبراهيم، وكان لهما أخ ثالث يقال له باحورين تارخ، فهاران أبو لوط وناحورا أبو تبويل وتبويل أبو لأن، ورتقا بنت تبويل امرأة إسحاق بن إبراهيم أم يعقوب وليا وزاجيل روحيا يعقوب ابنتا لايان، وآمنت به أيضًا سارة وهي بنت عمّه، وهي سارة بنت هاران الأكبر عمّ إبراهيم عليه السلام.
وقال السدّي: كانت سارة بنت ملك حرّان وذلك أنّ إبراهيم ولوطًا انطلقا قِبَل الشام فلقي إبراهيم سارة وهي ابنة ملك حرّان وقد طعنت على قومها في دينهم، فتزّوجها إبراهيم على أن يغيّرها.
قال ابن إسحاق: خرج إبراهيم من كوثى من أرض العراق مهاجرًا إلى ربّه، وخرج معه لوط وسارة كما قال الله سبحانه {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إلى ربي} [العنكبوت: 26] فخرج يلتمس الفرار بدينه والأمان على عبادة الله حتى نزل حرّان فمكث بها ما شاء الله أن يمكث، ثمّ خرج منها مهاجرًا حتّى قدم مصر، ثمَّ خرج من مصر إلى الشام ونزل السبع من أرض فلسطين وهي بُرية الشام، ونزل لوط بالمؤتفكة وهي من السبع على مسيرة يوم وليلة وأقرب من ذلك، فبعثه الله سبحانه نبيًّا فذلك قوله: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأرض التي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} يعني الشام، وبركتها أنّ منها بعث أكثر الأنبياء وهي أرض خصبة كثيرة الأشجار والأنهار والثمار يطيب فيها عيش الفقير والغنىّ.
وروى العوفي عن ابن عباس في قوله: {إِلَى الأرض التي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} قال: يعني مكّة ونزول إسماعيل، ألا ترى أنّه يقول: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ} [آل عمران: 96] والقول الأول أصوب.
{وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} أي عطاء عن مجاهد، الحسن والضحّاك: فضلًا، قال ابن عباس وأُبي بن كعب وابن زيد وقتادة: سأل واحدًا فقال: ربّ هب لي من الصالحين فأعطاه الله إسحاق ولدًا، وزاده يعقوب ولد الولد فهو النافلة. قال مجاهد وعطاء: معنى النافلة العطية وهما جميعًا من عطاء الله سبحانه أعطاهما إيّاه.
{وَكُلًا جَعَلْنَا صَالِحِينَ} يعني إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم السلام.
{وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً} يُقتدى بهم في الخير {يَهْدُونَ} يدعون الناس إلى ديننا.
{بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِمْ فِعْلَ الخيرات وَإِقَامَ} وإقامة {الصلاة وَإِيتَاءَ الزكاة وَكَانُواْ لَنَا عَابِدِينَ وَلُوطًا} أي وآتينا لوطًا، وقيل واذكر لوطًا {آتَيْنَاهُ حُكْمًا} أي الفصل بين الخصوم بالحقّ {وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ القرية التي كَانَت تَّعْمَلُ الخبائث} يعني سدّ وما كان أهلها يأتون الذكران في أدبارهم ويتضارطون في أنديتهم مع أشياء أُخر كانوا يعملونها من المنكرات.
{إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصالحين وَنُوحًا إِذْ نادى} دعا {مِن قَبْلُ} أي من قبل إبراهيم ولوط {فاستجبنا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ} أتباعه {مِنَ الكرب العظيم} الطوفان، والكرب أشد الغم.
{وَنَصَرْنَاهُ} منعناه {مِنَ القوم الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} أن يصلوا إليه بسوء، وقال أبو عبيد: أي على القوم.
{إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الحرث} قال مرّة وقتادة: كان الحرث زرعًا، وقال ابن مسعود وشريح: كان كرمًا قد نبتت عناقيد {إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ القوم} أي رعته ليلًا فأفسدته، والنفش بالليل، والهمل بالنهار، وهما الرعي بلا راع {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} لا يخفى علينا منه شيء، ولا يغيب عنّا علمه.
{فَفَهَّمْنَاهَا} أي علّمناها وألهمناها يعني القضيّة {سُلَيْمَانَ} دون داود.
{وَكُلًا} يعني داود وسليمان {آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا}.
قال ابن عباس وقتادة والزهري ومرّة: وذلك أنّ رجلين دخلا على داود أحدهما صاحب حرث والآخر صاحب غنم، فقال صاحب الزرع: هذا انفلتت غنمه ليلًا فوقعت في حرثي، فلم تبق منه شيئًا، فقال له داود: اذهب فإنّ الغنم لك، فأعطاه رقاب الغنم بالحرث، فخرجا فمرّا على سليمان فقال: كيف قضى بينكما، فأخبراه فقال سليمان: لو ولّيت أمرهم لقضيت بغيره، فأخبر بذلك داود فدعاه فقال: كيف تقضي بينهما؟ قال: ادفع الغنم إلى صاحب الحرث فيكون له نسلها ورسلها وحرثها وعوارضها ومنافعها ويبذر أصحاب الغنم لأهل الحرث مثل حرثهم، فإذا كان العام المقبل وصار الحرث كهيئته يوم أُكل دفع إلى أهله وأُخذ صاحب الغنم غنمه.
وقال ابن مسعود وشريح ومقاتل: إنّ راعيًا نزل ذات ليلة بجنب كرم، فدخلت الأغنام الكرم وهو لا يشعر فأكلت القضبان وأفسدت الكرم، فصار صاحب الكرم من الغد إلى داود، فقضى بالأغنام لصاحب الكرم لأنه لم يكن بين ثمن الكرم وثمن الأغنام تفاوت، فمرّوا بسليمان وهو ابن إحدى عشرة سنة فقال: ما قضى الملك في أمركم؟ فقصّوا عليه القصّة فقال سليمان: غير هذا أرفق بالفريقين، فعادوا إلى داود فأخبروه بذلك فدعا سليمان وقال له: بحقّ النبوّة والأُبوّة إلاّ أخبرتني بالذي هو أرفق بالفريقين، فقال سليمان: تسلّم الأغنام إلى صاحب الكرم حتى يرتفق برسلها ونسلها وصوفها ومنافعها، ويعمل الراعي في إصلاح الكرم إلى أن يعود كهيئته، ثم يرد الاغنام إلى صاحبها فقال: القضاء ما قضيت. وحكم بذلك.
قال الحسن: كان الحكم بما قضى به سليمان، ولم يعنف الله داود في حكمه وهذا يدلّ على أنّ كلّ مجتهد مصيب.
وروى الزهري عن حرام بن محيصة قال: دخلت ناقة للبراء بن عازب حائطًا لبعض الأنصار فأفسدته، فرفع ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ هذه الآية، ثم قضى على البراء بما أفسدت الناقة وقال: «على أصحاب الماشية حفظ الماشية بالليل، وعلى أصحاب الحوائط حفظ حيطانهم وزروعهم بالنهار».
{وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الجبال يُسَبِّحْنَ والطير} أي وسخّرنا الجبال والطّير يسبّحن مع داود إذا سبّح.
قال وهب: كان داود يمرّ بالجبال مسبّحًا وهي تجاوبه وكذلك الطير.
قتادة: {يسبّحن} أي يصلّين معه إذا صلّى.
{وَكُنَّا فَاعِلِينَ} ذلك {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ} اللبوس عند العرب: السلاح كلّه درعًا كان أو جوشنًا أو سيفًا أو رمحًا، يدلّ عليه قول الهذلي يصف رُمحًا:
ومعي لبوس للبئيس كأنّه ** روق بجبهة ذي نعاج مُجفل

يريد باللبوس الرمح، وإنّما عنى الله سبحانه في هذا الموضع الدرع وهو بمعنى الملبوس كالحلوب والركوب.
قال قتادة: أول من صنع الدروع داود عليه السلام وإنّما كانت صفائح، فهو أوّل من سردها وحلقها.
{لِتُحْصِنَكُمْ} لتحرزكم وتمنعكم {مِّن بَأْسِكُمْ} حربكم، واختلف القرّاء فيه، فقرأ شيبة وعاصم برواية أبي بكر، ويعقوب برواية رويس، لنحصنكم بالنون، لقوله: {وعلّمناه} وقرأ أبو جعفر وابن عامر وحفص وروح، بالتاء يعني الصنعة.
{وَلِسُلَيْمَانَ} أي وسخّرنا لسليمان {الريح} وهو هواء محرّك وهو جسم لطيف يمتنع بلطفه من القبض عليه ويظهر الحسن بحركته، والريح تذكّر وتؤنّث.
{عَاصِفَةً} شديدة الهبوب {تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأرض التي بَارَكْنَا فِيهَا} يعني الشام وذلك أنّها كانت تجري لسليمان وأصحابه إلى حيث شاء سليمان ثم تعود به إلى منزله بالشام.
قال وهب بن منبه: كان سليمان إذا خرج إلى مجلسه عكفت عليه الطير وقام له الإنس والجنّ حتى يجلس على سريره وكان إمرًا غزًا قلّ ما يقعد عن الغزو، ولا يسمع في ناحية من الأرض بملك إلاّ أتاه حتى يذلّه، وكان فيما يزعمون إذا أراد الغزو أمر بمعسكره فضرب له بخشب، ثم نصب له على الخشب، ثم حمل عليه الناس والدواب وآلة الحرب كلّها حتى إذا حمل معه ما يريد أمر العاصف من الريح فدخلت تحت ذلك الخشب، فاحتملته حتى إذا استقلت أمر الرخاء فمدّته شهرًا في روحته وشهرًا في غدوته إلى حيث أراد.
قال: فذكر لي منزل بناحية دجلة مكتوب فيه كتاب كتبه بعض صحابة سليمان إمّا من الجنّ وإمّا من الإنس: نحن نزلناه وما بنينا ومبنيًّا وجدناهـ. غزونا من اصطخر فقلناهـ. ونحن رائحون منه إن شاء الله فآتون الشام.
قال الله سبحانه {وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ وَمِنَ الشياطين} يعني وسخّرنا لسليمان أيضًا من الشياطين {مَن يَغُوصُونَ لَهُ} أي يدخلون تحت الماء فيخرجون له الجواهر من البحر {وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذلك} يعني دون الغوص {وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ} حتى لا يخرجوا من أمره. اهـ.